بريان جيه. تشِـن : مدير السياسات في مؤسسة “البيانات والمجتمع” (Data & Society).
بعد مرور خمسة أشهر منذ تولى رئاسته الثانية، بدأ دونالد ترمب بالفعل حقبة جديدة من الحوكمة التكنولوجية الإمبريالية التي تخضع فيها السلطات التنظيمية المحلية والأجنبية على حد سواء لإدارة أميركية تهيمن عليها شركات التكنولوجيا الكبرى على نحو متزايد.
عمل وادي السيليكون على رعاية نفوذه السياسي من خلال ممارسة الضغط العنيف، والتعيينات الرئاسية الاستراتيجية. والآن، على الرغم من نفور صناعة التكنولوجيا من تعريفات ترمب وأولوياته السياسية، فإن جهودها بدأت تؤتي ثمارها، حيث يعمل القادة الجمهوريون على إعاقة تنظيم التكنولوجيا ليس فقط في الكونجرس ــ حيث كان التقدم التشريعي مستبعدا دائما ــ ولكن أيضا على مستوى الولايات وحول العالم.
كجزء من مشروع قانون ميزانية ترمب “الكبير الجميل”، يدرس المشرعون فرض حظر لمدة عشر سنوات من شأنه أن يمنع الولايات الأميركية من تنظيم الذكاء الاصطناعي. هذا الحظر المقترح كفيل بتقويض الجهود المبذولة لفرض الشفافية في إدارة أنظمة الذكاء الاصطناعي، وحماية المستهلكين من تثبيت الأسعار خوارزميا، والحد من مراقبة العمال. ورغم أنه من غير المرجح أن يجتاز القواعد الإجرائية في مجلس الشيوخ، فإن السيناتور الجمهوري تيد كروز تعهد بملاحقة حظر مماثل في التشريعات في المستقبل.
من منظور صناعة التكنولوجيا، كان الاستباق الفيدرالي يشكل لفترة طويلة استراتيجية يمكن التعويل عليها لتجنب قوانين الولاية المزعجة. كما أنه يتوافق مع الجهود التي يبذلها الجمهوريون لتركيز السلطة التنظيمية للذكاء الاصطناعي داخل البيت الأبيض. وقد يفسر هذا سبب تركيز الحوار الدائر حول الحظر المقترح إلى حد كبير على المخاوف الجيوسياسية وليس حقوق الولايات.
على سبيل المثال، في جلسة استماع في الكونجرس بشأن الاقتراح، حوّل المشرعون والشهود الخبراء ما كان ينبغي أن يكون محادثة حول دور مجالس الولايات في ساكرامنتو ودنفر إلى خطب هجاء عصماء ضد الإفراط في التنظيم في بروكسل والاستبداد في بكين. إذا انتهى الأمر بالولايات المتحدة إلى خليط من قوانين الذكاء الاصطناعي في الولايات، فسوف تناضل الشركات الأميركية في محاولة تعزيز الإبداع والمنافسة مع الصين.
خلال جلسة الاستماع تلك، استشهد المتحدثون في هذا المجال مرارا وتكرارا بلوائح الاتحاد الأوروبي الرائدة مثل النظام الأوروبي العام لحماية البيانات وقانون الذكاء الاصطناعي، بحجة أن التجاوزات التنظيمية أعاقت قدرة أوروبا على إنتاج شركات تكنولوجيا عالمية المستوى. كانت الرسالة واضحة: لهزيمة الصين، يجب ألا تصبح الولايات المتحدة بروكسل أخرى.
ولكن هل لا تزال بروكسل هي بروكسل؟ قبل أي مناقشة حول استباق الذكاء الاصطناعي، بدأت إدارة ترمب بالضغط على الاتحاد الأوروبي من أجل تخفيف قوانين التكنولوجيا مثل قانون الخدمات الرقمية وقانون الأسواق الرقمية. في فبراير/شباط، في كلمة ألقاها نائب الرئيس الأميركي جيه. دي. فانس، أمام قاعة ضمت قادة الاتحاد الأوروبي والعالم في قمة الذكاء الاصطناعي في باريس، شجب نائب الرئيس الأميركي “القواعد الدولية المرهقة” التي تطبق على الشركات الأميركية. وفي القمة ذاتها، أشار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى رغبته في “تبسيط” قوانين الاتحاد الأوروبي في مجال التكنولوجيا و”إعادة تزامنها مع بقية العالم”.
تشير بعض الدلائل إلى نجاح هذه الاستراتيجية. تعكس خطة عمل الذكاء الاصطناعي في القارة التي طرحها الاتحاد الأوروبي مؤخرا نهجا أكثر ليونة في التعامل مع التنظيم، كما يعمل القائمون على إنفاذ القانون على خفض الغرامات المفروضة على شركات التكنولوجيا الأميركية. من ناحية أخرى، تواصل تلك الشركات الأميركية ذاتها الضغط، فتمارس الضغوط على المفوضية الأوروبية لحملها على الإبقاء على قواعد الذكاء الاصطناعي “بسيطة قدر الإمكان”. ويظل تنظيم التكنولوجيا يشكل أيضا نقطة خلاف في سياسة ترمب التجارية. في مايو/أيار، هدد ترمب بفرض رسوم جمركية بنسبة 50% على واردات الاتحاد الأوروبي في حين ظلت المفاوضات حول الضرائب الرقمية وتنظيم التكنولوجيا في طريق مسدود.
يصور السياسيون الأميركيون “تأثير بروكسل” غالبا على أنه قصة تحذيرية تستند إلى حد كبير إلى فكرة مطعون في صحتها مفادها أن الاتحاد الأوروبي، المهووس بوضع معايير عالمية بحكم الأمر الواقع، بالغ في تقدير قوة أوراقه وأفسد في نهاية المطاف قطاع التكنولوجيا لديه. لكننا الآن نشهد ظهور “تأثير واشنطن”: انكماش حوكمة التكنولوجيا على مختلف المستويات ــ الحكومات المحلية، والولايات، والهيئات المتعددة الجنسيات ــ بهدف تعزيز تفوق الشركات الأميركية، مع تركز السلطة التنظيمية على نحو متزايد في الفرع التنفيذي في الحكومة الفيدرالية.
في السعي وراء الهيمنة التكنولوجية العالمية، عمل الرئيس السابق جو بايدن ــ وهو من أشد المدافعين عن النظام العالمي الليبرالي بقيادة الولايات المتحدة ــ مع حلفائه على تنسيق “شبكات أمان الذكاء الاصطناعي” وإعادة تشكيل الخطوط الرئيسية لإنتاج أجهزة التكنولوجيا. على النقيض من ذلك، وكما لاحظ المؤرخ جيك ويرنر، “يتصور ترمب الاقتصاد على أنه سوق حيث يضغط أصحاب القدرة على المساومة على من يفتقرون إليها من أجل تحقيق الأرباح، وليس كسلسلة توريد تتراكم فيها القوة في العُـقَـد الاستراتيجية المرتبطة بالسلع أو التكنولوجيات النادرة”.
وبقرارها التخلي عن القيود التي فرضها بايدن على تصدير أشباه الموصلات، أظهرت إدارة ترمب أنها لا ترى حاجة إلى استخدام الوصول إلى وحدات معالجة الرسومات (GPUs) المتطورة لجلب الدول الأخرى إلى طاولة المفاوضات؛ كما أنها لا تبدي اهتماما كبيرا بالتنسيق المتعدد الأطراف. في حديثه عن إعلان التعريفة الجمركية الأخيرة في الاتحاد الأوروبي، كان ترمب صريحا على نحو مميز: “أنا لا أبحث عن صفقة. لقد حددنا الاتفاق”.
ويتجلى المنطق ذاته في السياسة الداخلية الأميركية. فقد اختفت “الاجتماعات التشريعية” من زمن بايدن والتي جمعت بين مشرعي الولايات لمعالجة القضايا المهمة على المستوى الوطني. وبدلا من ذلك، يريد الجمهوريون تحويل البيت الأبيض إلى غرفة مقاصة مركزية لجميع سياسات الذكاء الاصطناعي، حتى لو كان ذلك يعني منع مسؤولي الولايات من تقديم سبل الحماية ضد الممارسات التعسفية.
هذه الإجراءات تكمل بعضها بعضا: فبينما يضغط مسؤولو الإدارة الأميركية على الحكومات الأجنبية للتخفيف من وطأة الضغوط على الشركات الأميركية، يتحرك الكونجرس لمنع الرقابة على مستوى الولايات تماما. باختصار، تُـصَـوَّرَ واشنطن على أنها المكان الوحيد حيث يمكن اتخاذ القرارات.
والمفارقة هنا أن السلطة الفيدرالية، حتى في عصر التراجع التنظيمي، ستشكل مسار التكنولوجيا الأميركية في المستقبل. إن “الفوز بسباق الذكاء الاصطناعي”، وهو هدف غامض وغير قابل للتحديد إلى حد كبير، سيعتمد على سلطة الدولة الأميركية والإكراه السياسي بقدر ما يعتمد على الاستثمار الخاص. ومهما كانت احتمالات التعاون المتعدد الأطراف ضئيلة، فإن تأثير واشنطن يتضاءل بسرعة.
سوف يعتمد قسم كبير من الأمر على كيفية استجابة الصين. ومع ذلك، باستثناء أولئك الذين سيستفيدون مباشرة من سباق التسلح التكنولوجي، نجد أن التوقعات قاتمة: فمع تزايد حِـدّة الخطاب القومي، تتفوق مصالح شركات التكنولوجيا المهيمنة على نحو متزايد على رؤية نظام الإبداع الذي يخدم الصالح العام.
الواقع أن الولايات المتحدة تعشق تصوير نفسها على أنها بطل الديمقراطية والإبداع الأول في العالم. لكن استراتيجيتها لتحقيق تفوقها في مجال الذكاء الاصطناعي تعتمد على التجاوزات الإمبريالية وتوسع السلطة التنفيذية غير المقيد. لا تفضل إدارة ترمب الولايات الحمراء على الزرقاء، ولا تتعاون مع الحلفاء الأوروبيين للتغلب على الصين. بل تسعى بدلا من ذلك إلى انتزاع السلطة من أجهزة الدولة والشركاء الأجانب على حد سواء، مع إعطاء الأولوية للافتراس على الحوكمة الفعّالة.